قال بفناء الجنة كما قال بفناء النار الجهم بن صفوان إمام المعطلة، وليس له سلف قط، لا من الصحابة ولا من التابعين لهم بإحسان ، ولا من أئمة المسلمين ، و لا من أهل السنة ، وأنكره عليه عامة أهل السنة .
وأبو الهذيل العلاف شيخ المعتزلة قال بفناء حركات أهل الجنة والنار، بحيث يصيرون إلى سكون دائم لا يقدر أحد منهم على حركة (1). وكل هذا باطل ، قال شارح الطحاوية : " فأما أبدية الجنة، وأنها لا تفنى ولا تبيد، فهذا مما يعلم بالضرورة أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أخبر به، قال تعالى: ( وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ ) [هود:108]، أي غير مقطوع، ولا ينافي ذلك قوله : ( إلا ما شاء ربك ) [ هود:108] " (2) وقد ذكر شارح الطحاوية اختلاف السلف في هذا الاستثناء فقال: " واختلف السلف في هذا الاستثناء: فقيل : معناه إلا مدة مكثهم في النار، وهذا يكون لمن دخل منهم إلى النار ثم أخرج منها، لا لكلهم .وقيل: إلا مدة مقامهم في الموقف . وقيل : إلا مدة مقامهم في القبور والموقف . وقيل: هو استثناء الرب ولا يفعله، كما تقول: والله لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك، وأنت لا تراه، بل تجزم بضربه. وقيل: " إلا " بمعنى الواو، وهذا على قول بعض النحاة، وهو ضعيف.وسيبويه يجعل إلا بمعنى لكن ، فيكون الاستثناء منقطعاً ورجحه ابن جرير وقال : إن الله تعالى لا خلف لوعده ، وقد وصل الاستثناء بقوله : ( عطاء غير مجذوذ ) [ هود:108]، قالوا : ونظيره أن تقول : أسكنتك داري حولاً إلا ما شئت، أي سوى ما شئت، ولكن ما شئت من الزيادة عليه . وقيل : الاستثناء لإعلامهم بأنهم – مع خلودهم – في مشيئة الله ، لأنهم لا يخرجون عن مشيئته ، ولا ينافي ذلك عزيمته وجزمه لهم بالخلود، كما في قوله تعالى : ( ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلا ) [ الإسراء:86]، وقوله تعالى : ( فإن يشأ الله يختم على قلبك ) [الشورى:24]، وقوله : (قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به ) [يونس:16]، ونظائره كثيرة، يخبر عباده سبحانه أن الأمور كلها بمشيئته، ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن.
وقيل : إن " ما " بمعنى " من " أي: إلا من شاء الله دخوله النار بذنوبه من السعداء . وقيل غير ذلك.
وعلى كل تقدير ، فهذا الاستثناء من المتشابه، وقوله: ( عطاء غير مجذوذ ) [ هود:108]. وكذلك قوله تعالى : ( إن هذا لرزقنا ما له من نفاد ) [ص:54]. وقوله : ( أكلها دائم وظلها ) [ الرعد:35].وقد أكد الله خلود أهل الجنة بالتأبيد في عدة مواضع من القرآن، وأخبر أنهم ( لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ) [الدخان:56].وهذا الاستثناء منقطع ، وإذا ضممته إلى الاستثناء في قوله تعالى : (إلا ما شاء ربك ) [هود:108]، - تبين أن المراد من الآيتين استثناء الوقت الذي لم يكونوا فيه في الجنة من مدة الخلود ، كاستثناء الموتة الأولى من جملة الموت، فهذه موتة تقدمت على حياتهم الأبدية، وذلك مفارقة للجنة تقدمت على خلودهم فيها ". (3)